الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)
.فصل: في كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ بِإِفْرَادِ الْقِرَاءَاتِ وَجَمْعِهَا: وَتَسَاهَلَ قَوْمٌ، فَسَمَحُوا أَنْ يَقْرَأَ لِكُلِّ قَارِئٍ مِنَ السَّبْعَةِ بِخَتْمَةٍ، سِوَى نَافِعٍ وَحَمْزَةَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِخَتْمَةٍ لِقَالُونَ، ثُمَّ خَتْمَةٍ لِوَرْشٍ، ثُمَّ خَتْمَةٍ لِخَلَفٍ، ثُمَّ خَتْمَةٍ لِخَلَّادٍ، وَلَا يَسْمَحُ أَحَدٌ بِالْجَمْعِ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ، نَعَمْ إِذَا رَأَوْا شَخْصًا أَفْرَدَ وَجَمَعَ عَلَى شَيْخٍ مُعْتَبَرٍ، وَأُجِيزَ وَتَأَهَّلَ، وَأَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ الْقِرَاءَاتِ فِي خَتْمَةٍ، لَا يُكَلِّفُونَهُ الْإِفْرَادَ، لِعِلْمِهِمْ بِوُصُولِهِ إِلَى حَدِّ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِتْقَانِ. ثُمَّ لَهُمْ فِي الْجَمْعِ مَذْهَبَانِ عِنْدَ السَّلَفِ (فِي الْقِرَاءَاتِ): أَحَدُهُمَا: الْجَمْعُ بِالْحَرْفِ أَحَدُ مَذْهَبَا الْجَمْعِ فِي الْقِرَاءَاتِ عِنْدَ السَّلَفِ، بِأَنْ يَشْرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، فَإِذَا مَرَّ بِكَلِمَةٍ فِيهَا خُلْفٌ أَعَادَهَا بِمُفْرَدِهَا، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا فِيهَا، ثُمَّ يَقِفَ عَلَيْهَا إِنَّ صَلَحَتْ لِلْوَقْفِ، وَإِلَّا وَصَلَهَا بِآخِرِ وَجْهٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْوَقْفِ. وَإِنْ كَانَ الْخُلْفُ يَتَعَلَّقُ بِكَلِمَتَيْنِ كَالْمَدِّ الْمُنْفَصِلِ وَقَفَ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَاسْتَوْعَبَ الْخِلَافَ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَا بَعْدَهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُوَ أَوْثَقُ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَأَخَفُّ عَلَى الْآخِذِ، لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ رَوْنَقِ الْقِرَاءَةِ وَحُسْنِ التِّلَاوَةِ. الثَّانِي: الْجَمْعُ بِالْوَقْفِ أَحَدُ مَذْهَبَا الْجَمْعِ فِي الْقِرَاءَاتِ عِنْدَ السَّلَفِ، بِأَنْ يَشْرَعَ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَدَّمَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى وَقْفٍ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَى الْقَارِئِ الَّذِي بَعْدَهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْفِ، ثُمَّ يَعُودَ، وَهَكَذَا حَتَّى يَفْرُغَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّامِيِّينَ، وَهُوَ أَشَدُّ اسْتِحْضَارًا، وَأَشَدُّ اسْتِظْهَارًا، وَأَطْوَلُ زَمَنًا، وَأَجْوَدُ مَكَانًا. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بِالْآيَةِ عَلَى هَذَا الرَّسْمِ. وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَيْجَاطِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ وَشَرْحِهَا: لِجَامِعِ الْقِرَاءَاتِ شُرُوطًا سَبْعَةً، حَاصِلُهَا خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: حُسْنُ الْوَقْفِ. ثَانِيهَا: حُسْنُ الِابْتِدَاءِ. ثَالِثُهَا: حُسْنُ الْأَدَاءِ. رَابِعُهَا: عَدَمُ التَّرْكِيبِ فَإِذَا قَرَأَ لِقَارِئٍ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِ حَتَّى يُتِمَّ مَا فِيهَا، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَدَعْهُ الشَّيْخُ بَلْ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ، قَالَ لَمْ تَصِلْ، فَإِنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ مَكَثَ حَتَّى يَتَذَكَّرَ، فَإِنْ عَجَزَ ذَكَرَ لَهُ. الْخَامِسُ: رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالِابْتِدَاءُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُؤَلِّفُونَ فِي كُتُبِهِمْ فَيَبْدَأُ بِنَافِعٍ قَبْلَ ابْنِ كَثِيرٍ، وَبِقَالُونَ قَبْلَ وَرْشٍ. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ بَلِ الَّذِينَ أَدْرَكْنَاهُمْ مِنَ الْأُسْتَاذَيْنِ لَا يَعُدُّونَ الْمَاهِرَ إِلَّا مَنْ يَلْتَزِمُ تَقْدِيمَ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ. وَبَعْضُهُمْ كَانَ يُرَاعِي فِي الْجَمْعِ التَّنَاسُبَ: فَيَبْدَأُ بِالْقَصْرِ، ثُمَّ بِالرُّتْبَةِ الَّتِي فَوْقَهُ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ مَرَاتِبِ الْمَدِّ. وَيَبْدَأُ بِالْمُشْبَعِ ثُمَّ بِمَا دُونَهُ إِلَى الْقَصْرِ. وَإِنَّمَا يُسْلَكُ ذَلِكَ مَعَ شَيْخٍ بَارِعٍ عَظِيمِ الِاسْتِحْضَارِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَيُسْلَكُ مَعَهُ تَرْتِيبٌ وَاحِدٌ. قَالَ: وَعَلَى الْجَامِعِ أَنْ يَنْظُرَ مَا فِي الْأَحْرُفِ مِنَ الْخِلَافِ أُصُولًا وَفَرْشًا، فَمَا أَمْكَنَ فِيهِ التَّدَاخُلُ اكْتُفِيَ مِنْهُ بِوَجْهٍ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ فِيهِ نُظِرَ: فَإِنْ أَمْكَنَ عَطْفُهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيطٍ وَلَا تَرْكِيبٍ اعْتَمَدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْسُنْ عَطْفُهُ رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِ ابْتِدَائِهِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ الْأَوْجُهَ كُلَّهَا، مِنْ غَيْرِ إِهْمَالٍ وَلَا تَرْكِيبٍ وَلَا إِعَادَةِ مَا دَخَلَ: فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مَكْرُوهٌ، وَالثَّالِثَ مَعِيبٌ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّلْفِيقِ، وَخَلْطُ قِرَاءَةٍ بِأُخْرَى: فَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي النَّوْعِ الَّذِي يَلِي هَذَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَاتُ وَالرِّوَايَاتُ وَالطُّرُقُ وَالْأَوْجُهُ: فَلَيْسَ لِلْقَارِئِ أَنْ يَدَعَ مِنْهَا شَيْئًا أَوْ يُخِلَّ بِهِ؛ فَإِنَّهُ خَلَلٌ فِي إِكْمَالِ الرِّوَايَةِ إِلَّا الْأَوْجُهَ، فَإِنَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ فَأَيُّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ أَجْزَأَهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا: قَدْرُ مَا يُقْرَأُ حَالَ الْأَخْذِ مَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآن: فَقَدْ كَانَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى عَشْرِ آيَاتٍ لِكَائِنٍ مَنْ كَانَ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَرَأَوْهُ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْآخِذِ. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْأَخْذُ فِي الْإِفْرَادِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَفِي الْجَمْعِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَلَمْ يَحُدَّ لَهُ آخَرُونَ حَدًّا، وَهُوَ اخْتِيَارُ السَّخَاوِيِّ. وَقَدْ لَخَّصْتُ هَذَا النَّوْعَ، وَرَتَّبْتُ فِيهِ مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَاتِ، وَهُوَ نَوْعٌ مُهِمٌّ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْقَارِئُ، كَاحْتِيَاجِ الْمُحَدِّثِ إِلَى مِثْلِهِ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ. .فَائِدَةٌ: .فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ: .فَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ: وَفِي فَتَاوَى الصَّدْرِ مَوْهُوبٌ الْجَزَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْخٍ طَلَبَ مِنَ الطَّالِبِ شَيْئًا عَلَى إِجَازَتِهِ، فَهَلْ لِلطَّالِبِ رَفْعُهُ إِلَى الْحَاكِمِ وَإِجْبَارُهُ عَلَى الْإِجَازَةِ؟. فَأَجَابَ: لَا تَجِبُ الْإِجَازَةُ عَلَى الشَّيْخِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا. وَسُئِلَ أَيْضًا: عَنْ رَجُلٍ أَجَازَهُ الشَّيْخُ بِالْإِقْرَاءِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ، وَخَافَ الشَّيْخُ مِنْ تَفْرِيطِهِ، فَهَلْ لَهُ النُّزُولُ عَنِ الْإِجَازَةِ؟ فَأَجَابَ: لَا تَبْطُلُ الْإِجَازَةُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ دَيِّنٍ الْمُجَازُ لَهُ. وَأَمَّا أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ فَجَائِزٌ: فَفِي الْبُخَارِيّ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ». وَقِيلَ: إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِت: أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ، فَأَهْدَى لَهُ قَوْسًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ سَرَّكَ أَنْ تُطَوَّقَ بِهَا طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا». وَأَجَابَ مَنْ جَوَّزَهُ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالًا، وَلِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِتَعْلِيمِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، ثُمَّ أَهْدَى إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَخْذُ، بِخِلَافِ مَنْ يَعْقِدُ مَعَهُ إِجَارَةً قَبْلَ التَّعْلِيمِ. وَفِي الْبُسْتَانِ لِأَبِي اللَّيْث: التَّعْلِيمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لِلْحِسْبَةِ، وَلَا يَأْخُذُ بِهِ عِوَضًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُعَلِّمَ بِالْأُجْرَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعَلِّمَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَإِذَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ قَبِلَ. فَالْأَوَّلُ مَأْجُورٌ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْأَنْبِيَاءِ. وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيه: وَالْأَرْجَحُ الْجَوَازُ. وَالثَّالِثُ يَجُوزُ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُعَلِّمًا لِلْخَلْقِ، وَكَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ. .فَائِدَةٌ رَابِعَةٌ: .فَائِدَةٌ أُخْرَى: .فَائِدَةٌ أُخْرَى: .النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي آدَابِ تِلَاوَتِهِ وَتَالِيهِ: .مَسْأَلَةٌ: في اسْتِحْبَابِ الْإِكْثَارِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْن: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ». وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ». وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ». وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «الْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ يَتَرَاءَى لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تَتَرَاءَى النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «نَوِّرُوا مَنَازِلَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمَّتِي قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: «كُلُّ مُؤْدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ، وَمَأْدُبَةُ اللَّهِ الْقُرْآنُ فَلَا تَهْجُرُوهُ». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدَةَ الْمَكِّيِّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: «يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، لَا تَتَوَسَّدُوا الْقُرْآنَ وَاتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَفْشُوهُ، وَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». وَقَدْ كَانَ لِلسَّلَفِ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ عَادَاتٌ: فَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي كَثْرَةِ الْقِرَاءَة: مَنْ كَانَ يَخْتِمُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ثَمَانِيَ خَتَمَاتٍ: أَرْبَعًا فِي اللَّيْلِ، وَأَرْبَعًا فِي النَّهَارِ. وَيَلِيه: مَنْ كَانَ يَخْتِمُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَرْبَعًا. وَيَلِيه: ثَلَاثًا. وَيَلِيهِ خَتْمَتَيْنِ. وَيَلِيهِ خَتْمَةً. وَقَدْ ذَمَّتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مِخْرَاقٍ، قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: إِنَّ رِجَالًا يَقْرَأُ أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؟ فَقَالَتْ: قَرَءُوا وَلَمْ يَقْرَءُوا، كُنْتُ أَقُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ التَّمَامِ، فَيَقْرَأُ بِالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ، فَلَا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا اسْتِبْشَارٌ إِلَّا دَعَا وَرَغِبَ، وَلَا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ إِلَّا دَعَا وَاسْتَعَاذَ». وَيْلِي ذَلِكَ مَنْ كَانَ يَخْتِمُ فِي لَيْلَتَيْنِ. وَيَلِيهِ مَنْ كَانَ يَخْتِمُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَكَرِهَ جَمَاعَاتٌ الْخَتْمَ فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ: لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ- وَصَحَّحَهُ- مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثٍ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا قَالَ: «لَا تَقْرَءُوا الْقُرْآنَ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثٍ». وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُنْذِرِ- وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ- قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِ اسْتَطَعْتَ». وَيَلِيه: مَنْ خَتَمَ فِي أَرْبَعٍ، ثُمَّ فِي خَمْسٍ، ثُمَّ فِي سِتٍّ، ثُمَّ فِي سَبْعٍ، وَهَذَا أَوْسَطُ الْأُمُورِ وَأَحْسَنُهَا، وَهُوَ فِعْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ؛ قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: أَقْرَأْهُ فِي عَشْرٍ؛ قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ». وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ- وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ- أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي كَمْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: فِي خَمْسَةَ عَشَرَ. قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: اقْرَأْهُ فِي جُمُعَةٍ». وَيْلِي ذَلِكَ: مَنْ خَتَمَ فِي ثَمَانٍ، ثُمَّ فِي عَشْرٍ، ثُمَّ فِي شَهْرٍ، ثُمَّ فِي شَهْرَيْنِ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: كَانَ أَقْوِيَاءُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي شَهْرٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي شَهْرَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْبُسْتَانِ: يَنْبَغِي لِلْقَارِئِ أَنْ يَخْتِمَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الزِّيَادَةِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ، فَقَدْ أَدَّى حَقَّهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَرَضَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُكْرَهُ تَأْخِيرُ خَتْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِلَا عُذْرٍ خَتْم الْقُرْآنِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ «سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كَمْ نَخْتِمُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: الْمُخْتَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ خَتْم الْقُرْآنِ، فَمَنْ كَانَ يَظْهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ لَطَائِفُ وَمَعَارِفُ، فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ يَحْصُلُ لَهُ مَعَهُ كَمَالُ فَهْمِ مَا يَقْرَأُ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مَشْغُولًا بِنَشْرِ الْعِلْمِ، أَوْ فَصْلِ الْحُكُومَاتِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ لَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ إِخْلَالٌ بِمَا هُوَ مُرْصَدٌ لَهُ، وَلَا فَوَاتُ كَمَالِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فَلْيَسْتَكْثِرْ مَا أَمْكَنَهُ، مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى حَدِّ الْمَلَلِ أَوِ الْهَذْرَمَةِ فِي الْقِرَاءَةِ.
|